بقلم: عمار البغدادي
في السنة الحادية والستين من الهجرة لقي سبط النبي (صلى الله عليه وسلم) مصرعه في كربلاء، كان حدثا" جللا" ومصابا" كبيرا" ، طاف خصومه برأسه البلدان .. ولما استقر الجسد المقدس مع رأسه اشتعلت الثورات في كل مكان على خلفية المطالبة بدم المقتول بكربلاء . وبعد قرون مديدة يصل رأس احد الاسباط الى مثواه الاخيرفي عراق الحسين قادما" من خراسان مستريحا" عند ذات التربة وذات المنعطف .. وها هي جموع الاتباع تودع جثمانه الى مستقره نبيلا" بخصائص الرجال عريقا" بنبالة الفكرة الاسلامية التي قاتل من اجلها .. حكيما" وهو يشهد اهم تطور في تاريخ بلاده عبر قيام اول تجربة مدنية للحقوق وبارادة عراقية .التاريخ يستعيد نفسه .. والمشهد الحسيني الذي يطوف في البلدان يتكرر مع جثمان عبد العزيز الحكيم .. هذا امام يهبط اخيرا" بمثوى الخالدين في النجف وكأنه يهبط على جموع الاتباع من السماء وليس من الطائرة ..واذ ينهي الألم مسيرة سنتين من الضغط الشديد على جسده النحيل .. تنتهي اسطورة كفاح طويل لرجل سيخلف ورائه مكاسب بحجم المسيرة مثلما سيخلف احزانا" بحجم المكاسب !.حين يقبل عليك بدارته المتواضعة في المنفى قبل ربع قرن من الان .. تشعر ان عصر ائمة الترابية والتسامح والسجود الطويل بمحراب الثورة لم ينته .. وان الرجل يمثل واحدا" من هؤلاء الأئمة .كان قليل الكلام .. كثير الفعل ، يوصل الليل بالنهار وايته المكوث هناك عند اقرب نقطة في الحدود مع زرباطية تخطيطا" لعملية جهادية او بناء لخلايا سرية هي مفتح دورة الحياة في وقت كان العراق يعيش احتباس الحياة .لم يتصرف مرة بوصفه احد انجال الامام الحكيم ولم يشعر الاخرون من الاتباع بايقاع هذا الامتداد النسبي وهم يتواصلون معه في حركة الثورة او في التوثيق لجرائم النظام .. كان في حركته ابنا" سببيا" لمرجعية الناس قبل ان يكون نجلا" نسبيا" لمرجعية الامام .وهكذا يخرج الرجل النحيل من غرف الدرس في النجف الى ميدان العمل الوطني الواسع ويبدأ معه عصر جديد من التوهج العالي في سماوات التمرد العراقي الكبير !.هو اخر انجال المرجع الحكيم .. لكنه اول الابناء الذين تركوا بصمة واضحة في مسيرة الدولة منذ بدايات التاسيس الاول .. ورغم وجود الشقيق الشهيد في محراب التثقيف وبناء المشروع الوطني والاصلاح الاجتماعي السياسي لكن السيد عبد العزيز الحكيم كان في قلب العملية السياسية .. وميدانيا" هو الزعيم الفعلي للأكثرية النيابية عبر اول تجربة وطنية في التاريخ السياسي العراقي الحديث .هذا يعني ان الرجل هو المسؤول الاول عن الحقوق المدنية والسياسية للشيعة في العراق ..وحين يمثل الام وتطلعات هذه الشريحة الاساسية في البلد يعني ان المهمة ثقيلة والحمل مكلف ولا ينهض بالحمل الثقيل الا اهله .وخلال سنوات ورغم معاناة المرض الطويلة اختصر ابو عمار الطريق على المعذبين فقد تحول المظلومون قواعد تاسيس والضحايا منذ عصر كلكامش نواة لحرية منهوبة وها هو الطريق يشيع في عبد العزيز بيعة مطلقة للحق المغصوب والديمقراطية الذبيحة والحلم الذي لم يتحقق الا بعد دهور .وعلى خلاف قادة في التاريخ لم يمارس ( السيد) اعتدادا" شخصيا" في قيادته للمجلس الاعلى الاسلامي ، اعاد العمل مجددا" بالشورى وبشكل فعلي لمؤسسات ورؤية هذا الاطار الاجتماعي الاسلامي وركز على المضمون بدور المجلس في الدولة .. تماما" كما ركز امام المحراب شقيقه الحكيم على مضمون الدور في زمن الثورة .كان لعبد العزيز الحكيم اية الشورى ولشهيد المحراب سورة القراءة الاولى لمفتتح عصر الثورة .. وبشهادة قادة عراقيين وزعماء احزاب يشكل المجلس الاسلامي في عهد عبد العزيز الحكيم نافذة مريحة لقراءة المشهد الاسلامي الشيعي ورائد تسويات وطنية وحلا" وسطا" بين خصوم ..ان ايمانه بالشورى مبني على يقينه ان الاحزاب الكبيرة لا تقود سفينة التغيير الا بالتعددية والايمان بالكفاءات والنضج وعدم التعسف .. كانه شقيق قائد الثورة الفلسطينية ابو عمار وهم يفتتح اول مؤتمر وطني حاشد في الجزائر ويردد وسط هتافات المعترضين .. انها ديمقراطية غابة البنادق !!.في بيت الامام الحكيم .. وفي اوائل الخمسينات من القرن الفائت عانق وجهه شهاب القباب العلوية .. ان هؤلاء الانجال لا يولدون كما تولد الاشياء العادية في مستهل انبثاق الاشياء انهم يتشكلون كما تتشكل البحار والمحيطات .رأى بام عينيه عباءة المرجع .. ودوران الارض حول مسائل الفقه وتطورات السياسة وتشكل الاحزاب وتحديات الواقع المفروض المرفوض من قبل مرجعية الامام .شاهد عناق التوحد بين الاسلام والامة تحت راية المرجع العتيد .. واختمرت في ذهنه فكرة ان لا دولة الا بالحرية ولا حرية شاملة الا بالاعتماد على الخزين المتوقد في حركة الناس وحشود الاتباع .وحين تلتقيه يشع بين يديك تاريخا" يتوضأ بالتطهر والنقاء الثوري .. وحكايات عن المرجع الذي رفض اعدام الشيوعيين عام 1959 وفتوى (الشيوعية كفروالحاد) ودفاع المستميت عن الحريات في زمن الكبير عبد الكريم قاسم .. ان عبد العزيز الحكيم ذاكرة ناس وتوهج مرحلة ونـــقاء سلالات ارامية عريقة !!.من الخطأ قراءة تاريخ هذا الرجل بانتقائية سياسية مقصودة .. لان تلك القراءة ستسقط الرجل في فخ التصنيف .. مثلما ستسقط صاحبها في فخ الكراهية المطلقة للاشياء .القراءة الصح هي تلك التي تأخذه بكله .. بتاريخ المرجعية منذ الرسائل الأولى لثورة العشرين ومشاركة الامام الحكيم بالتصدي لأحتلال بغداد عام 1917 وبسنوات طويلة من كفاح سياسي واجتماعي وفكري ووقوف صلب مع قضايا العراق والامة ..هذه القراءة تقدم عبد العزيز الحكيم للناس بوصفه الامتداد الجغرافي لمرجعية التاريخ فيما الثانية فهي المقصودة المغلوب على امرها.... المأمورة باداء وظيفة التامر على التاريخ !!.حتى وهو في مجلس الحكم .. او وهو يرفع يده لملايين الاتباع زعيما" لاغلبية برلمانية نوعية لم يخالجه اعتداد او زهو .. وبقى رهين محبس التقاة والنزاهة والادمية الفذة .. وعاش وهو اقرب الناس للناس واكثرهم احساسا" بمعاناتهم وعقد تسويات حقيقية مع المحيط اكراما" لوطن الامهات والمقدسات ومواكب الشهداء !!.من الاخطاء الفادحة .. هي ان يؤخذ الحكيم الراحل بوصفه نسيجا" لوحده .. او انه شقيق محمد باقر الحكيم الذي قدم لرئاسة المجلس وزعامة الصوت الشيعي الوطني من بوابة الشقيق القتيل !!.عبد العزيز الحكيم امتداد لمدرسة الاسلام العراقي وهو يمثل في هذا الامتداد 70% من الصوت الوطني الذي استقدم الاسلاميين العراقيين لاول برلمان في تاريخ العراق بعد التجربة البرلمانية الاولى في العهد الملكي ..نشأ في بيت المرجع ودرس الاسلام في محيط عاشق للاصلاح يؤازره حبه للاصلاح الديني .. وترعرع وفي ذهنه فكرة العدالة والمساواة وان يكون لهذا الدين دور في قيادة الحياة !.وربما كان الاشقاء الثلاثة .. محمد مهدي ومحمد باقر وعبد العزيز اقرب اهل البيوتات المرجعية لنبض العبقرية في روح محمد باقر الصدر .. وهم الاشقاء الثلاثة الذين ارتبط اسمهم ووجودهم باسم ووجود عنوان الشهيد الصدر الاول .. ومع بقائه في ذاكرة التاريخ يخلد هؤلاء الثلاثة في ذاكرة الناس اسماء بحجم التحدي ورجالا" بقامة الخالدين !. التواضع هو ابرز ما يميز هذه الشخصية .. ولعله برع في ادارة مهمة الدفاع عن نوعه الوطني اكثر من براعة غيره في الدفاع عن النوع الطائفي !.وعلى خلاف توجهات الاخرين .. لم يكن الحكيم طامحا" لموقع رئاسي او سياسي رسمي او وظيفة عليا في اطار الدفاع عن النوع المذهبي ..ولعل ظهوره في مشهد الحكم هو الاخير في تدرج الصورة المباشرة لادارة الدولة ..ان بيت الحكيم حكام على الضمير قبل ان يكونوا علماء دين وفقهاء في شؤون الدنيا .. ومن يقوده ضميره .. لن يولي الشأنية الشخصية اهتماما" .. ومن يتدرج وعيه مدارج المعرفة الاسلامية الاولى ستعاف نفسه مباهج الدنيا لأن الامر يتعلق بالعمل مع الاعالي .. اعالي البحار والمحيطات .. واعالي الفكرة الانسانية التي تستبطن الصعود نحو المرتفعات وعدم الانحناء لما دون النجوم يموت الخالدون بكل فج .. ويستعصي على الموت الخلود هل انتهت مرحلة الاوائل من بيت الامام الحكيم بوفاة اخر الابناء ؟.وهل المرجعيات التي يشكلها التاريخ والمواقف الوطنية رهينة محابس الانباء فاذا مات احدهم على جلالة وزنه تموت العبقرية والمواقف ويطوي التاريخ اوراقه ويمضي حيث يمضي البدريون من صحابة المواقف ؟.وهل يموت المستميت.. وعبد العزيز الحكيم المستميت الثاني بعد بقاء الاول مهابا" في قبره كبيرا" في سطور افكاره وشجاعته الشخصية وفرادة ذهنه .. كما المستميت الثالث في الخرطوم العابر القارات التوحش البعثي رمحا" عربيا" وفقيها" من قريش في حراء المسألة العراقية ؟.من النجف حيث الهجرة الاولى لفضاء دراسة الحضارة الاسلامية الى طهران واهوار الجنوب والعمل المسلح وقوات الشهيد الصدر وسنوات التحدي ودم على جدار الخرطوم ورصاص لا يهدأ في صدور الاشقاء القابعين في زنازين النظام السابق ..تاريخ معطر بصلوات المسافات الطويلة ونشيد يردده الابناء القادمون على تراب العائدين !!.الكبار .. لا يعمرون طويلا" ..حدث هذا مع محمد باقر الصدر في العراق وموسى الصدر في لبنان .. حيث يعتكف الامام في الكنيسة لكي يضع حدا" للاقتتال المسيحي المسيحي ويطالب من الجنوب بحرية الناس .. ويختفي هناك ..محمد صادق الصدر الذي شرع صلاة الكفن بعد غياب عن ساحة العمل الاسلامي الكبير .. اخرج الناس من الظلالة الى الهدى واحدث انعطافا" هائلا" ولم يبلغ الستين من عمره ..هل للعبقرية وخدمة الناس وقواعد الثبات في العمل بالمشروع العام اجال ايها السادة ؟.الراحلون .. يكتبون بجثامينهم قصص اممهم ويروون للتاريخ ملاحم من عمل خاضوا غمراته بالسهر والمعاناة وتحمل الاذى من ذوي القربى لكنهم وهم يشتغلون بقانون الحياة يرفضون الموت مكرهين ويعشقون الاعالي والمرتفعات عاكفين على رغبة بالتحليق فوق اديم الارض وتحت سماء الرحمة وبعيدا" عن هرطقات الكلام السياسي المبذول في الصالونات .. المتروك هناك مع بقايا معارك الفوز بالمناصب السيادية !!.حين تخرجون بتشييعه في الشارع .. وهو يقدم اليكم بجثمانه الموشى بالصبر .. لا تخرجوا اليه فقيدا" لاسرة .. اخرجوا اليه بطلا" في امة وشهيدا" في محراب الدولة ومحاربا" قديما" في ساحات المواجهة المريرة .هناك فرق بين الفقيد والبطل ..وبحتساب الفارق يطل التاريخ من نوافذ الخلاني وجامع الهندي ومدرسة الامام الحكيم والحنانة وشارع المتنبي ليعلن بداية عهد وبداية بطل وبداية تجربة للانسان وهي تخترق القصف والمفخخات .. تجربة بحجم الالم وبحجم القيم التي صنعت من السيد عبد العزيز حاكما" لاغلبية برلمانية وحكما" للاخوة المختلفين بعد رحيله .رحم الله عبد العزيز الحكيم في العليين .. وتغمده في الصابرين والمجاهدين .. واسكنه مع رفاق دربه ودربنا الطويل .. وسلام عليه في الخالدين .
https://telegram.me/buratha