أ. د. حاتم جبار الربيعي*
في حياة الإنسان تمر الكثير من المواقف ولايمكث في الذاكرة الإ القليل لإعتبارات كثيرة، ومنها موضوع ورقتي لهذه الحلقة.ففي الساعة الثامنة من صباح أحد الأيام من شهر حزيران عام 2005 أخبرني الأستاذ الدكتور موسى الموسوي رئيس جامعة بغداد بأن السيد رئيس جمهورية العراق الدكتور جلال الطالباني يريد مقابلة رئيس الجامعة ومساعديه العلمي (كاتب المقال) و الإداري في مكتب ديوان رئاسة الجمهورية في الساعة العاشرة صباحا، لمناقشة بعض الأمور التي تخص الجامعة وإمكانية تطويرها ودعمها في كافة المجالات. وبالرغم من حرصي على مقابلة هذه الشخصية العراقية الوطنية، وكان يتوقع ردة فعل تعبر عن بهجتي، ولكن جوابي جاء على عكس كل توقعاته !
ذلك لأنني أجبته بالإعتذار !
تعجب الموسوي , وحين إستفسر عن السبب قلت له : لدي إجتماع مهم في نفس موعد الزيارة مع السادة معاوني عمداء كليات جامعة بغداد وبحضور رئيس قسم الدراسات العليا (الدكتور محمد السراج) بخصوص شرح وتوضيح آلية التقديم وأسس قبول الطلبة للدراسات العليا للعام 2005/2006، وقد وصل قسم منهم مبكرا إلى مبنى رئاسة الجامعة لحضور ذلك الإجتماع , وليس من اللائق الغاء الإجتماع في هذا الوقت المتأخر .
فتقبل السيد رئيس الجامعة عذري وذهب برفقة الأستاذ الدكتور نهاد الراوي مساعد رئيس الجامعة للشؤون الإدراية. وأبلغا السيد رئيس الجمهورية شكري على الدعوة وإعتذاري عن الحضور بسبب إنشغالي بإلتزامات علمية تخص الدراسات العليا وتقبل الرجل ذلك الإعتذار برحابة صدر.
والحقيقة بقى هذا الموضوع في الذاكرة ويمكن الإستدلال منه الأمور التالية:
1- ثقتنا العالية بأن السيد رئيس الجمهورية سيتفهم موضوع الأعتذار عن الحضور لأنه مسؤول دولة يحب العلم والعلماء ويقدر معنى الإخلاص بالعمل ولاتهمه فحوى اللقاءات بقدر أهمية مردودها الإيجابي لخدمة العراق.
2- إبتعادنا عن مظاهر الخوف والطمع التي يشعر بها المسؤولون لتلبية مثل هذه الدعوات لثقتنا بأن السيد رئيس جمهورية العراق هو أعلى موظف في الدولة العراقية وليس رئيسا للأبد .
3-تفهم السيد رئيس الجمهورية لأسباب إعتذارنا وتيقنه بأن إجتماعنا مع السادة معاوني العمداء له الأهمية الكبيرة في تعزيز ووضع أسس قبول طلبة الدراسات العليا، فهو يعرف أهمية الدراسات العليا ودورها في بناء العراق وأن التهيئة المبكرة لها أمر مطلوب.
4- حسن الظن الذي يتمتع به السيد رئس الجمهورية بالآخرين وقد حذرالله سبحانه وتعالى من سوء الظن عند الناس اذ أنها سببت مشاكل كثيرة في حياتنا وأن بعض الظن أثم كما قال الله سبحانه وتعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ،(الحجرات 12).
5- إستغرابي بأن موضوع زيارة لرئيس الجمهورية يبلغ بها بشكل علني ومع تحديد الوقت باليوم والساعة ؟؟؟ لأن مثل هذه اللقاءات "وكما أعتدنا" لايفصح عنها ابدا، ويخبر الشخص فقط بأن لديه موعد !!!! ليؤخذ الى ذلك المكان دون علمه بأنه سيقابل رئيس الجمهورية لذا فأنه يجهل تماما الموعد والطريق وأسم ذلك المكان، خصوصا تحت الظروف الأمنية الصعبة والخطرة التي كان يعيشها العراق في عام 2005.
6-إطمئنان السيد رئيس جامعة بغداد بأن إبلاغ ذلك الإعتذار سوف لن يسبب له اي مشاكل أدارية مع السيد رئيس الجمهورية وقبوله الإعتذار بسهولة.
7 – مدى الحرية التي منحت لنا من قبل السيد رئيس الجامعة وثقته العالية بمن يعمل معه.
8- مقدارالحرص الشديد الذي يتمتع به السادة معاوني عمداء الكليات للشؤون العلمية والدراسات العليا، اذ حضروا مبكرا الى رئاسة الجامعة في الجادرية قبل بدء الإجتماع بأكثر من ساعتين خوفا من إنسداد الطرق لأسباب أمنية التي قد تحرمهم من حضور ذلك الإجتماع كما كانت تحدث في كثير من الأحيان في تللك الفترة.
9- قيمة احترام المواعيد المعقودة حتى مع المسؤولين الأقل سلما وظيفيا.
ولذا فنحمد الله تعالى بأنه اطال في عمرنا لنعيش تحت الأجواء الديمقراطية الجديدة التي تجعل أكبر رجل في الدولة ينظر إلى مايفيد البلد وليس إلى ما يخصه ويرفع من شأنه اعلاميا. وأن تدريسيي ومسؤولي الجامعة يحددون لقاءاتهم وإجتماعاتهم حسب المصلحة العامة وليس حسب عنوان ومنصب مسؤول الدولة، ويلتزمون بمواعيدهم المعقودة من أجل تحديد مواصفات الطلبة الذين سيدرسون في الدراسات العليا، ليساهموا لاحقا ببناء ونهضة العراق ليمارس دوره الريادي بعد أن أجبرته الحروب التي مر بها والحصار الأقتصادي والأحتلال من الغياب عنه لفترة طويلة.
فقد كنا نسمع بأن هذه العلاقة الديمقراطية قد تحدث بين موظفي الدولة ورئيس الجمهورية في الدول الغربية أو المتطورة حضاريا وعلميا ولكننا لم نكن نتوقع حدوثها في دول العالم الثالث وفي العراق خاصة.
فتحية لكل القادة المخلصين الذين يجعلون من مناصبهم عنوانا للخير والعمل الصالح واحتراما لرأي ومصلحة الآخرين، بدلا من استغلالها من أجل الإضطهاد والتكبر والجبروت اقتداء بما قاله الله سبحانه وتعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ،(النساء 173).
*مساعد رئييس جامعة بغداد للشؤون العلمية(منتخب) 2003-2006
https://telegram.me/buratha