علي غالب بابان - وزير التخطيط العراقي
• لدينا إنسان عراقي سقيم لأنه يعيش في بيئة سقيمة.. واقتصاد ينحسر ويذوي لأن عوامل ثرائه البيئي من ماء وتربة تنحسر ويذوي...
• من كان يصدق قبل ثلاثين أو أربعين سنة أن مدينة الأنهار.. والترع.. البصرة سوف تشرب ماءً مالحاً... وأن جنات النخيل فيها ستموت في صمت دون أن ينتحب عليها أحد...
عندما تزدحم المصاعب والتحديات وتتفاقم المشاكل والهموم لا يبق لبعضها متسع من الاهتمام أو حيز من التركيز يتناسب مع حجمها وخطورتها وهذا هو حالنا في العراق اليوم حيث تختلط المعضلات الاجتماعية بالمعاشية ويحار المخطط أو متخذ القرار مع أيها يتعامل وأيها يؤجل...الأمم حالها كحال الإفراد عندما تواجه مشكلة عويصة أو تحدٍ يفوق قدراتها فأنها تلجأ في حالة العجز إلى إلقاءه في منطقة (اللاوعي) وتتعمد نسيانه أو تجاهله, يحدث هذا عندما يتعرض الإنسان إلى مرض عضال كما يقع مع المجتمعات التي تجد نفسها غير قادرة على التعاطي الجدي مع مشاكلها...هذا التوصيف الذي سقناه ينطبق تمام الانطباق على الواقع البيئي في العراق والذي بات واقعاً معتلاً بكل ماتعنيه الكلمة فنحن عندما نتحدث عن مشكلات بيئية في بلادنا لا نقصد بها تلك المشكلات التي تعنى بها الدول المتقدمة ولكن نعني تحديات خطيرة باتت تهدد حياة الإنسان ومعيشته في هذا الوطن بالفعل... فصحة المواطن العراقي ومصادر رزقه وإنتاجه كلها اليوم في دائرة الخطر المباشر بفعل عوامل بيئية صرفة... فلدينا مواطن يعطش.. وقرى تذبل.. وحياة تندثر.. ونخيل يذوي.. ومدن مهددة بالزوال.. وكل هذا بسبب الجفاف والتلوث وبفعل الإهمال والتقصير.. لدينا إنسان عراقي سقيم لأنه يعيش في بيئة سقيمة.. واقتصاد ينحسر ويذوي لأن عوامل ثرائه البيئي من ماء وتربة تنحسر ويذوي... عندنا صحاري تزحف وتفترس مساحات الخضرة إمامها.. وتربة تفقد خصوبتها وعذريتها.. وأنهار يشحب لونها ويشتد هزالها وتنحسر على الضفاف.. لم تعد القضية البيئية في بلادنا مرتبطة بانقراض أصناف من الطيور.. أو تراجع أصناف من الزراعات بل غدت اكبر من ذلك بكثير فقد صارت باقتصاد حياة الإنسان العراقي ورخائه في خطر حقيقي ليس متوهماً ولا مضخماً بسبب تلك المشكلات البيئية المتفاقمة والتي قرر متخذو القرار في العراق إلقائها في (منطقة اللاوعي) بسبب العجز عن مواجهتها فيما هي تكبر.. وتتضخم.. وتتعفن كل يوم..بلاد الرافدين.. أو ارض السواد.. مهددة بأن تصبح أرضاً يرحل عنها مواطنوها بسبب المشاكل البيئية المتفاقمة... من كان يصدق قبل ثلاثين أو أربعين سنة أن مدينة الأنهار.. والترع.. البصرة سوف تشرب ماءً مالحاً... وأن جنات النخيل فيها ستموت في صمت دون أن ينتحب عليها أحد... من كان يتوقع أن يصبح الفرات في بعض مدن الجنوب ساقية شاحبة اللون.. أو أن مدناً عراقية بأكملها صارت تقبع فوق بحار من المياه الجوفية التي يرتفع منسوبها كل يوم... ولماذا غابت الصباحات الجميلة عن بغداد وغيرها من المدن ليكسو الغبار هامتها كل يوم في الصيف والربيع... من كان يظن أن تربة العراق المعطاء صارت تضن على زارعيها بعد أن فتكت بها الأدغال وكستها الأملاح.لم يعد الشأن البيئي عندنا اتساعا في ثقب الأوزون.. أو انقراضا لطير الحباري... ولكنه صار أخطر من هذا بمرات وصار يعني باختصار.. مستقبل الاقتصاد والصحة في هذا الوطن.. فلا يمكن أن نتوقع ازدهارا اقتصاديا في ظل بيئة فقدت عناصر ثرائها.. ومع مواطن معتل تضربه الأمراض والبيئة التي تترعرع في بيئة غابت عنها النظافة والعذرية..البيئة ومسائلها صارت اليوم جزءاً ملتحماً في علم الاقتصاد منذ أن ظهر مصطلح التنمية المستدامة، تلك التنمية التي لديها القدرة على الاستمرار والعطاء دون ضغط أو استنزاف لمصادر الثورة الطبيعية، واليوم لا يمكن لأحد أن يتحدث في الاقتصاد دون أن يستخدم تعريف الناتج الإجمالي الأخضر الذي يعتمد على دمج المفاهيم الاقتصادية والبيئية معا ًالشأن البيئي ذا بعدين.. أولهما بعد عالمي يتعلق بالمشاكل التي تهدد الكوكب برمته من احتباس حراري وارتفاع مياه المحيطات وغيرها ونحن بالطبع جزء من هذا العالم ولابد أن نشعر بنفس القلق الذي تشعر به الدول المتقدمة وباقي دول العالم تجاه تلك الظواهر والمهددات.. وثانيها البعد المحلي أو الوطني وهنا لدينا قائمة طويلة قد لا نجد لها نظيراً في كثير من الدول... فلدينا انحسار المياه وشحتها.. ثم تلوثها.. وتلوث التربة وفقدان خصوبتها.. والتصحر الزاحف... وتلوث المياه الجوفية وإرتفاع منسوبها.. وإنقراض كثير من اصناف الحيوانات.. والزراعات.. الخ... هذه المعضلات لم يعد لدينا خيار في مواجهتها بما تستحق لأن ثمن معالجتها اليوم وبالقطع ارخص ثمناً.. واقل كلفة من الناحية الإجتماعية والصحية من مواجهتها في الغد... وأي تأخير في التصدي الجدي لهذه الظواهر يعني المجازفة بحياة الإنسان... ومستقل الإقتصاد في آن واحد..العالم اليوم وضع الملف البيئي على رأس قائمة إهتماماته ولم يعد هناك بلد واحد في العالم يمكن له أن ينفصل عن هذا الإلتزام.. ونحن في العراق لدينا أسباب أضافية لنفعل ذلك لانه لدينا مشاكلنا البيئية الخطيرة التي تدفعنا لبذل إهتمام مضاعف..العالم اليوم يضع يده على قلبه خوفاً على الكوكب وما يتعرض له من اخطار بيئية.. ونحن جديرون بما هو أكثر من ذلك وأن نذرف دموعاً سخية على ما فرطنا في جنب هذا الوطن.. ارضاً وماءً وهواءً.. وبالتأكيد فأن اجيال العراقيين القادمة التي سوف يقدر لها أن تعيش على هذه الأرض لن تغفر لمن تسبب بهذا الإهمال.. وذلك التفريط...
https://telegram.me/buratha