دراسات

قبول الفكر بين الإخضاع والإقناع…


الدكتور علي زناد كلش البيضاني ||

 

غالباً ما تتسم المعادلات الثنائية في إطار القبول والرفض بالحديّة وعدم المرونة نتيجة الانحصار والتقييد في مفاهيم الاختيار ، مسألة قبول الفكر من المسائل ذات الوصف المذكور آنفاً ، إذ لا يمكن تعدد وتنوع الفكر والقناعات ـ خصوصاً الدينية ـ عند الإنسان الواحد بدلالة الآية القرآنية "مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ  " الأحزاب / 4 ، والبحث في وسائل الفكر وإمكانية قبوله على طول تاريخ البشرية نجد إن طريقة القبول الفردي وفق قناعات غير ضاغطة عليه من الخارج هي الصورة الأمثل في ترسيخ هذا الفكر وتجذّره وعدم اقتلاعه مهما كلفت الظروف ، فالفكر الذي يستلمهُ الإنسان عن طريق السلم والليونة في التعامل يكون أثبت في القلب ، فهذا التعامل يطرق أبواب القلب ومن ثم يحتله احتلالاً ليصبح بعد ذلك اعتقادً لا يمكن لأكبر قوة في العالم زحزحته وتغييره وإن بدا في الظاهر عكسه               ـ صمن مفهوم التقية ـ إلا إن المدار هو مدار القلب بدلالة الآية القرآنية التي نزلت بحق عمار بن ياسر ( رض ) " مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ " النحل / 106 ، والحديث النبوي الشريف يشير إلى ذلك متماشياً مع القرآن إذ روي عن رسول الله ( ص وآله ) " إن الله تعالى لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى أحسابكم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه " وما دام القلب لا يمكن الكشف عنه كما الفكر بخصوصيته المعنوية إذن تصبح المسألة في غاية الصعوبة لاقتلاع الفكر وتغييره من داخل الإنسان بالقوة ، فالأشياء المعنوية لا تنتهي بانتهاء الشخوص بل بالعكس نجد هناك نماذج تاريخية بقتلها قد تجذّر الفكر وانساح في المعمورة أكثر من ذي قبل ، إنما يمكن بالأخلاق الحسنة والتودد واللين اجتذاب القلوب وانفتاحها على الآخر لتصبح وعاءً جاهز لاستقبال هذا الفكر الإيجابي إذ قال الإمام علي (ع) " من لانت كلمته وجبت محبته " فوجوب المحبة التي هي أول طرق القبول تتم عبر وسائل اللين والتودد لا الشدة والغلظة ولنا في ذلك مصداق قرآني " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ " آل عمران / 159 ، وبما إن الله العالم والخبير بكل شيء رسم لنا خارطة طريق في اجتذاب القلوب وجرها إلى ساحة الفكر الحق عبر مفهوم "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ " النحل / 125 ، فالحكمة والموعظة الحسنة هي السبيل الأمثل في السير نحو قبول الفكر من قبل الآخر ، أما جانب الغلظة والقوة ومحاولات الاجتثاث المادي لم تجدِ نفعاً بل أحدثت ارتدادات عكسية على الجبابرة والطواغيت فهذا النمرود حاول إن يحرق النبي إبراهيم (ع) ظنً منه إن قتله يقضي على دعوته بعدما أعيتهُ السبل في إمكانية المواجهة الفكرية لكن الإرادة الإلهية وصدقيّة الفكر وأحقيته المُتبنى من قبل النبي إبراهيم (ع) ومناغمته للفطرة الإنسانية دون إخضاع وإكراه مكنتّهُ من الانتصار ، ولنا في النبي يوسف (ع) مصداق واضح على ذلك فالمحاولات المتعددة للقضاء عليه مادياً قاصدةً القضاء على فكره ودعوته كلها باءت بالفشل فعندما تستعرض القرآن وتدرس قصته من إلقاء في البئر إلى نفي إلى تعذيب إلى سجن تجدها لم تلقَ أساليب الإخضاع القسري طريقها للتأثير في نفس النبي يوسف (ع) بل كان النصر حليفه ليتبوأ بعد ذلك منصب عزيز مصر ، كما الحال مع النبي موسى (ع) وطاغية عصره فرعون فبالرغم من تعدد المحاولات لاجتثاث فكره كان الفشل حليفها ، وأكبر مصداق تاريخي نستشعر حقيقة مستوى تأثير اللين والسلم والمحبة في قبول فكره دون الغلظة والشدة والتنكيل ما نعيشه في نعيم الدين الإسلامي الخالد ، وإذا حدثت هنالك هنّات فالخطأ ليس في النظرية ـ الدين الإسلامي ـ كمفهوم إنما الخطأ من حيث التطبيق ـ مصاديق شخصية باطلة ـ حسبت نفسها على الإسلام ،والإسلام منهم براء ، فالذي يريد إن يرى صورة الإسلام الصحيح يستعرض حياة الرسول الأكرم (ص وآله ) وأئمة أهل البيت (ع) ليجد صور التعامل الأخلاقي التي تجتذب قلوب الأولياء فضلاً عن الأعداء ولنا في ذلك قصص كثيرة لا مجال لذكرها أعلنوا إسلامهم على يد الأئمة الأطهار (ع) لا بالسيف والسوط بل بالخلق الكريم والحجة الدامغة .

 

 

ـــــــــــــــــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
فيسبوك