الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في کتاب تأريخ القرآن للدكتور محمد حسين علي الصغير عن المنزل من القرآن: وقد أورد الزركشي عن السمرقندي ثلاثة أقوال في المنزل من القرآن: 1 ـ أنه اللفظ والمعنى، وأن جبرائيل عليه السلام حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به. 2 ـ إن جبرائيل عليه السلام إنما نزل بالمعاني الخاصة، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم تلك المعاني، وعبّر عنه بلغة العرب. 3 ـ إن جبرائيل عليه السلام، إنما ألقي إليه المعنى، وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب. والأول هو الصحيح دون ريب، لأن جبرائيل عليه السلام وصف بالروح الأمين لأمانته المتناهية، فلا يضيف ولا يغير، ولا يبدل ولا ينسى، ولا يخوّل ولا يتجوز ، كيف لا وهو روح القدس بقوله تعالى "قُلْ نزَّلَهُ روحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ" (النحل 102). والقرآن نازل من عند الله بألفاظه نفسها ، وما مهمة جبرائيل عليهالسلام إلا تبليغ الوحي كما تسلمه ، وهو آيات الكتاب الكريم بنصوصها خالصة بدلالة قوله تعالى "تلكَ ءاياتُ اللهِ نتلوهَا عليكَ" (ال عمران 108). وقد اختار السيوطي ذلك تعبدا بلفظ القرآن إعجازاً، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه، وإن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه. وخصوصية القرآن التعبد بتلاوته لأن ألفاظه نازلة من الله تعالى فلا تدانيها خصوصية أخرى، لأن هناك ما هو نازل من السماء كالأحاديث القدسية، ولكنها ليست بقرآن، فلا خصوصية للتعبد بتلاوتها. وإن أخذنا بمضامينها حرفياً، ولكنها لم تنزل بألفاظها المخصوصة لها كما هو شأن القرآن. والحديث النبوي نتعبد به أمراً ونهيا، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرسل الحديث ويقوله، ويتبع ذلك أهله وأصحابه، ثم يتلو القرآن ويقرؤه، فما اتفق يوما أن تشاكل النصان، أو تشابه القولان، ولو كان معنى القرآن ينقل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحيا، أو وحيه ينقل إليه معنى، والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يصوغه بلفظه، ويعبر عنه بكلامه، لاشتبه القرآن بالحديث ، والحديث بالقرآن، من وجهة نظر بلاغية على الأقل، بينما العكس هو الصحيح، فالخصائص الأسلوبية في القرآن تدل عليه، وخصائص الحديث تدل عليه، فكل له أسلوبه المتميز، ومنهجه الخاص حتى عرف ذلك القاصي والداني، ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن وممن جحدهما، فالقرآن كلام الله ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم ينقله كما سمعه ، بلفظه الدال على معناه وبمعناه الذي نطق به لفظه، لا شيء من محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا النقل الأمين، والحديث كلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتفوه به فيشرع ويحكم، لأنه المصدر الثاني بعد القرآن للشريعة الإسلامية، قال تعالى "ومَا ءاتاكُمُ الرَّسوُلُ فَخُذُوُهُ ومَا نهاكُمْ عنهُ فَانتَهُوا" (الحشر 7).
وعن الوحي القرآني يقول الدكتور الصغير رحمه الله في كتابه: ولقد بهت العرب أمام ظاهرة الوحي القرآني، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة، وأئمة البيان والفن القولي، وتذرعوا للتشكيك فيها بمختلف الوسائل، فأثاروا الشبهات، وتعلقوا بالأوهام ، فوصفوا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالضلال، والقرآن من ورائهم يناديهم بقوله "والنَّجمِ إذا هَوَى * ما ضلَّ صاحِبُكُم وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوَى * إنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى" (النجم 1-4). وتداعوا مرة أخرى إلى افتراضات متناقضة، فقالوا: أضغاث أحلام، وقد أيقنوا بصحوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقظته، وردوه إلى الكذب والاختلاق، وهم أنفسهم وصفوه من ذي قبل بالصادق الأمين ونسبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الشعر، وقد علموا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبعد ما يكون عن مزاج الشاعر وأخيلته، وما ترك في هذا المجال أثراً يركن إليه بهذه السمة، وقد عبر القرآن عن ذلك "بَلْ قالوا أضغاثُ أحلامِ بل افتراهُ بَل هوَ شاعر" (الانبياء 5). وما استقامت لهم الدعوى في شيء، ووصموه بالجنون "وقالُوا يأيُّها الَّذي نزّلَ عليهِ الذِّكرُ إنّكَ لمجنونٌ" (الحجر 6). "ثمَّ تولَّوْا عنهُ وقالُوا معلّمٌ مجنونٌ" (الدخان 14). وقد دلت الأحداث الاستقرائية، والسيرة الذاتية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على رجاحة عقله، واتزانه في تصرفاته، وتأكد لهم افتراؤهم بما شاهدوه من مجريات الأمور، وقد لبث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم حقبا طويلة قبل البعثة، فما مسكوا زلة، ولا أدركوا غفلة، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه النكتة الدقيقة بقوله "فقدْ لبثتُ فيكُمْ عُمُراً من قبلِهِ أفلا تعقلونَ" (يونس 16). وترددوا بقول الكهانة من بعد الجنون، فرد افتراءهم القرآن بما أمره به "فذكِّرْ فما أنتَ بنعمتِ ربِّكَ بكاهنٍ ولا مجنونٍ" (الطور 29). فما كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا بشيرا ونذيرا، وما كان الوحي إلا ذكراً للعالمين، فأين هو من الكهانة "ولا بقولِ كاهنٍ قليلاً ما تذكّرونَ" (الحاقة 42). وحينما أعيتهم الحيلة، ووقف بهم المنطق السليم، انطلقوا إلى القول "إنْ هذا إلا سحرٌ يؤثَرُ" (المدثر 24) شأنهم في هذا شأن من تقدمهم من الأمم مع أنبيائهم ورسائلهم، حذو القذة بالقذة، من الادعاءات، قال تعالى "كذلكَ ما أتَى الّذينَ من قبلِهِم من رّسولٍ إلا قالوا ساحرٌ أو مجنونٌ" (الذاريات 52) وقد علموا جدياً، أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في أصالته العقلية، أبعد ما يكون عن السحر والشعبذة والتمويه من قبل ومن بعد. وتمسكوا بأوهن من بيت العنكبوت، فأشاعوا بكل غباء أن لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم معلماً من البشر، وهو غلام رومي يمتهن صناعة السيوف بمكة، فألقمهم القرآن حجراً بردهم رداً فطرياً "لسانُ الذي يُلحدونَ إليهِ أعجميٌّ وهذا لسانٌ عربيٌّ مبينٌ" (النحل 103). وأغلقت السبل كافة في الوجوه والألسن والأقاويل، فرجموا بالغيب ، وتشبثوا بالطحلب، وحسبوا وجدان الضالة: فقالوا بما حكى الله عنهم "إنْ هذا إلا أساطيرُ الأوَّلينَ" (الانعام 25). وتمادى بهم القول ففصلوا بعد الإجمال وأبانوا بعد الإبهام "وقالوا أساطيرُ الأوَّلينَ اكتتبهَا فهي تملى عليهِ بُكرةً وأصيلاً" (الفرقان 5). وهكذا تبدو الحيرة مترددة بين عدة ادعاءات وافتراءات هم أنفسهم يعلمون بمجانبتها للواقع المشهود إذ لم يؤيدها نص إستقرائي واحد في حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ويبقى الوحي وحيا رغم كل هذا الأراجيف "وكذلك أوحينا إليك قرءاناً عربياً لتنذرَ أمَّ القرى ومن حولها" (الشورى 7). ويبقى القرآن قرآناً مقترنا بظاهرة الوحي الإلهي.
وجاء في الفصل الثاني من الكتاب الذي عنوانه نزول القرآن: نزل القرآن بأرقى صور الوحي، وتأريخ نزوله يمثل تأريخ القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو تأريخ يستغرق ثلاثة وعشرين عاماً. يكاد أن يتوافر لنا اقتناع نطمئن إليه بأن أوائل سورة العلق: هو أول ما نزل من القرآن. ومنشأ هذا الاقتناع تأريخي وعقلي، أما التأريخي فمصدره إجماع.لمفسرين تقريباً، ورواة الأثر، وأساطين علوم القرآن. وأما العقلي، فالقرآن أنزل على أمي لا عهد له بالقراءة، ليبلغه إلى أميين لا عهد لهم بالتعلم، فكان أول طوق يجب أن يكسر، وأول حاجز يجب أن يتجاوز. هو الجمود الفكري، والتقوقع على الأوهام، وما سبيل ذلك إلا الافتتاح بما يتناسب مع هذه الثورة، وقد كان ذلك بداية للرسالة بهذه الآيات بسم الله الرحمن الرحيم "اقرأ باسمِ ربِّكَ الذي خَلَقَ * خلقَ الإنسانَ من علقٍ * اقرأ وربُّكَ الأكرمُ * الّذي عَلَّمَ بالقلمِ * عَلَّمَ الإنسانَ مَا لم يعلمْ" (العلق 1-5). وبدأت مسيرة الوحي تلقي بثقلها على عاتق الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وفتح محمد صلى الله عليه وآله وسلم للنداء السماوي، "إنّا سنلقِي عليكَ قولاً ثقيلاً" (المزمل 5) ذراعاً وقلباً وتأريخاً. وهذا القول ثقيل بمبناه ومعناه، فهبوطه من سماء العزة، وساحة الكبرياء والعظمة يوحي بثقله في الميزان، وتسييره للحياة العامة بشؤونها المتعددة يوحي بكونه عبئا ثقيلا في التشريع والتنفيذ وإدارة الكون والعالم. ونزل القرآن في شهر رمضان المبارك "شهرُ رمضانَ الذي أنزلَ فيه القرءانُ" (البقرة 185) وفي ليلة مباركة فيه "إنّا أنزلناهُ في ليلةٍ مباركةٍ" (الدخان 3) وحملت الليلة المباركة على ليلة القدر "إنّا أنزلناهُ في ليلةٍ القدرِ" (القدر 1) هكذا صرح القرآن. واختلف في هذا الإنزال كلا أو جزءاً، جملة أو نجوماً، دفعة أو دفعات، إلى السماء الدنيا تارة، وعلى قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم تارة أخرى. ومهما يكن من أمر، فلا ريب بنزوله مفرقاً أو منجماً، ليثبت إعجازه في كل اللحظات، ولينضح بتعليماته بشتى الظروف، في حين يعترض فيه الكفرة على هذا النزول "وقالَ الذينَ كفرُوا لولا نُزّلَ عليه القرءانُ جملةً واحدةً كذلك لنثبِّتَ به فؤادكَ ورتَّلناهُ ترتيلاً" (الفرقان 32). والوحي ينظر إلى الناس باعتبارهم الهدف الرئيسي من تنزيل القرآن، قصد هدايتهم، ورجاء إثابتهم إلى الحق، فاهتم بهذا العنصر في سبب النزول مفرقاً، وصرح بذلك سبحانه وتعالى "وقرءاناً فرقناهُ لتقرأهُ على النّاسِ على مُكْثٍ ونزَّلناهُ تنزيلاً" (الاسراء 106). والسنن الطبيعية في الحياة تلتقي بالسنن الروحية في القرآن، فمصدرهما واحد، وهو تلك القوة الخلاقة المبدعة المدبرة، وهي كما تستطيع أن تحكم الأمر فجأة كلمح البصر "وما أمرنا إلا واحدةٌ كلمحِ البصرِ" (القمر 50) فهي كذلك تستمهل وتتدرج وفقاً لمصالح الكون، وتنظيما لشؤون الحياة، وكان التدرج في نزول القرآن من هذا الباب. الوحي تلبث وترصد وتأنى، فجاء بالأمر في خطوات متعاقبة شملت بيان المنافع والمضار والمآثم، وتدرجت إلى النهي عن اقتراب الصلاة وأنتم سكارى، وانتهت إلى التحريم "إنما الخمرُ والميسِرُ والأنصابُ والأزلامُ رجسٌ من عملِ الشَّيطانِ فاجتنبوهُ" (المائدة 90).
https://telegram.me/buratha