المقالات

من ذاكرة الانتفاضة الشعبانية المباركة

1112 2022-03-10

 

د. عطور الموسوي ||

 

صديقة لي من كربلاء المقدسة  حكم على زوجها بالسجن المؤبد بالمادة 156 ب بسبب انتمائه لحزب الدعوة الاسلامية وعليها أن تقدم لبغداد كل اسبوعين في موعد المواجهة التي حددتها إدارة السجن تحمل ما استطاعت من طعام ومستلزمات أساسية لشريك حياة لم تقض معه الا سنتين ونصف السنة، هي فتاة يتيمة الابوين لم يتبق من اهلها سوى أخت كبيرة تعاني من عدة أمراض مزمنة وزوجها السجين هذا منذ ستة أعوام وطفلها الوحيد، ولكثرة السجناء في حقبة البعث ومن كل المحافظات، صار أهاليهم يتفقون على أن يستأجروا سيارة كبيرة تقلهم ذهابا وإيابا، فهم يتعاونون بينهم ويشد بعضهم أزر بعض، وخف عنها شعور اليتم بين هؤلاء المكلومين بالأحبة مثلها، فهم يساعدونها في حمل المتاع ويبعدون عنها شعور الوحدة..

هي كعادتها تجهز لزوجها طعاما ليلة المواجهة وفي تلك الليلة قصدت السوق لتتبضع ما يتطلبه فشعرت بأمور غير اعتيادية وكلام بين الناس يشير الى حدث قريب وتغيير قادم، ولأن الشعب يأس من زوال حكم صدام وزبانيته وهي منهم فقد مرّ كلامهم هذا مرورا بلا مبالاة منها، بينما أخذت المحلات تستعجل غلق أبوابها ويعم هدوء مريب في المنطقة، كان ذلك ليلة السابع عشر من شعبان الخيرللعام 1411هـ ، والموافق 3 آذار من عام 1991م.

حدثتني: في كل مواجهة نغادر كربلاء عند الثالثة فجرا ونصل الى (خان ضاري) عند صلاة الفجر ونصلي ونكمل مسيرنا الى سجن (ابو غريب) فثمة سلسلة من المعاناة والتفتيش المتكرر ينتظرنا، كنت أشاهد وسط ظلام الطريق صور صدام العديدة قد تمزق بعضها وأسقط بعضها الآخر ورميت عليه النفايات والقاذورات، كل من في السيارة رأى ولكنه صامت يظن أنه خيال، ويخشى الإشارة عى الرغم من أن جميع من في السيارة هم متضررون من صدام.

تقول : وصلنا الى السجن كانت أمور بغداد طبيعية نوعا ما، وتمكننا من مقابلة أهالينا في تلك الساحة الواسعة حيث يتوزع السجناء عليها يشغلون مساحة بالكاد تكفي شخصين أو ثلاث من أهله فعددهم كبير لا يكفيه هذا المكان على سعته.

ثمة من تحدّث أن صدام سيذهب الى حيث لا رجعة وأن الثوار قادمون وها هي كربلاء قد صارت تحت قبضتهم .. فاستحالت أحاديث العوائل الى همهمات فرح مشوبة بخوف وترقب لأمنية صارت أشبه بالخيال .. هل ما يقال حقيقة أم وهم ؟ وهل سيتحرر هؤلاء الأبطال من سجنهم الظالم الذي دفعوا سنوات عمرهم مقابل كلمة حق عند سلطان جائر؟ حقا أنه حلم لا يتحقق الا بقدرته تعالى.

استعجل الأهالي وداع أحبتهم السجناء وغادروهم قبل انتهاء المدة المسموح بها للقاء (المواجهة)، لأسباب عديدة أهمها التأكد مما أشيع، والتخوف من أن يباغتهم أزلام الطاغية باحتجاز أو اعتقال وهذا وارد جدا فهم فوق الدستوروفوق القانون الذي سخراهما لتلك المآرب الشريرة القمع والتنكيل بكل معارض.

وأردفت : سارت السيارة ذات العشرين راكبا متجهة الى كربلاء، بينما السماء تمطر مطرا غزيرا كعادة أمطار آذار في العراق، وبمهارة من سائقها الخبير بالطرق البديلة لكل منفذ سدته قوات الأمن المتأهبة بأشد الاستعدادات، لذلك توجه السائق الى الفلوجة ومنها الى كربلاء، فوصلنا عند المغرب الى منطقة ولي الله (عون) وتبعد بضع أميال عن مركز كربلاء.. نعم أمضينا ساعات طويلة في الطريق ولم نتمكن من الاجتياز والدخول الى مدينتنا، حيث كانت مواجهة مسلحة بين الثوار المنتفضين وبين أزلام صدام عند دائرة أمن كربلاء.. ومن تلك المسافة كانت أصوات الرمي المتبادل تصل أسماعنا، فاستقبلنا أهالي منطقة (عون) مرحبين بنا وفتحوا لنا دورهم بكل كرم وسخاء وخاصة بعد أن علموا أننا عوائل لسجناء عارضوا النظام ..نعم تبدل وضعنا بين عشية وضحاها وحظينا بما نستحقه من احترام بعد أن مورست بحقنا كل أساليب الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي والنفسي من قبل تشكيلات حزب البعث المتعددة.

كانت فرحتي مغمورة بقلق شديد على ولدي الوحيد علي وأختي المريضة، هذه المرة لم يصحباني توفيرا لأجرة السيارة فضيق ذات اليد صار ينتابني وقد طالت سنون سجنه.. وعلى الرغم من أصوات تبادل الرمي بالسلاح قد بددت سكون ليلنا، إلا أن العوائل غطت في نوم عميق بعد يومهم المتعب نفسيا وجسديا، الا أنا رغم تعبي الشديد لم يغمض لي جفن وتسمرت عيناي على شباك لتلك الغرفة المكتظة بنا أتطلع بزوغ فجر يحمل معه تباشير فرح تاقت له قلوبنا المكلومة، وكم نادينا من أعماقنا ليلة ميلاد المنتظر قبل يومين : "اللهم عجل لوليك الفرج، واجعل فرجنا مع فرجه وابدأ بنا أولاً".. وفجأة صدح المؤذن يعلن عن الصلاة فرددت معه وعيناي تفيضان دمعا وخشوعا : (أشهد أن عليا ولي الله... أشهد أن عليا وأولاده المعصومين حجج الله).

فنهض الجميع ذاكرين الله وألسنتهم تردد: "فرّج عنا يا الله" وبعد الصلاة والإفطار الهنيء من أيدي نساء خبزن أرغفة شهية مع أقداح الحليب الطازج، واستعجلنا المسير الى مدينتنا بعد أن حسم أمر الدائرة الأمنية لصالح المنتفضين الأبطال وسيطروا على المنطقة سيطرة تامة، وولى من بقي حيا من البعثيين الى جحور ربما أعدوها لهكذا يوم يتوقعونه لما أجرموا .. وعلى قارعتي الطريق جثث لأزلام البعث (الرفاق) وبمختلف أصنافهم، منهم من لبس البدلة الزيتوني ومنهم من لبس السفاري، وهام قد ماتوا على ذات الفكر المضلل لحزب عفلق، ومن مات على حب قوم حشر معهم .

الغريب في الأمر أن من كان معي رجالا ونساءا وأطفالهم لم يستبشروا أبدا!! ولم أر على وجوههم الا الحيرة.. نعم صدام أمسك حكم البلاد من أدنى جنوبها الى أقصى شمالها بالنار والحديد وأعانه ملايين ممن باعوا دينهم بدنياهم وتغلغلوا في المجتمع بمسميات شتى، ومن شك في إخلاصه لن يتوانى عن قتله بأبشع وسائل الموت المتخصصة بفراعنة التاريخ، فأنى للأمل والفرح أن يجدا طريقا للنفوس .

على الرغم من صعوبة المسير في أرض وحلة أغرقتها أمطار الليلة البارحة، الا أننا وصلنا كربلاء الحسين ولاحت لنا مناراته وكأن الحزن قد انقشع عنها والمطر الغزير غسلها وصارت تضاهي الشمس بشعاعها الباعث الطمأنينة للنفوس، وفاضت عيناي دمعا وازداد وجيب قلبي على أحبتي أختي وولدي وأنا أعلم أن بيت أهلي الذي نقطنه قديم جدا ومتهالك فهل سألقاهما بخير تحت هذا الحدث الرهيب .. فناديت سيدي الحسين وكأنه ماثل أمامي بوجهه النوراني : سيدي نحن جيرانك .. حاشاك أن تتخلى عنا .

كربلاء بدت تتنفس هواءا نقيا خاليا من دنس البعثيين، رأيت الشباب المؤمنين وهم يقفون متأهبين لخدمة الأهالي بكل رحابة صدر وكلماتهم الحانية لأهلي كربلاء.. بينما جثث المجرمين البعثيين انتشرت في شوارعها وقد سر الناس لهذه النهاية لهم على الرغم من أنها لا تتناسب مع جرائمهم وعدد العوائل التي أبيدت بسبب تجسسهم و تقاريرهم الصفراء لساداتهم البعثيين.

رأيت الحرمين الحسيني والعباسي قد أحيطا بالمجاهدين المسلحين يحمونها...

وللحكاية تتمة ..

8/3/2022

ـــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
محمود الراشدي : نبارك لكم هذا العمل الجبار اللذي طال إنتظاره بتنظيف قلب بغداد منطقة البتاويين وشارع السعدون من عصابات ...
الموضوع :
باشراف الوزير ولأول مرة منذ 2003.. اعلان النتائج الاولية لـ"صولة البتاوين" بعد انطلاقها فجرًا
الانسان : لانه الوزارة ملك ابوه، لو حكومة بيها خير كان طردوه ، لكن الحكومة ما تحب تزعل الاكراد ...
الموضوع :
رغم الأحداث الدبلوماسية الكبيرة في العراق.. وزير الخارجية متخلف عن أداء مهامه منذ وفاة زوجته
عمر بلقاضي : يا عيب يا عيبُ من ملكٍ أضحى بلا شَرَفٍ قد أسلمَ القدسَ للصُّ،هيونِ وانبَطَحا بل قامَ يَدفعُ ...
الموضوع :
قصيدة حلَّ الأجل بمناسبة وفاة القرضاوي
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
فيسبوك