المقالات

في ذكرى مجزرة سبايكر التاريخية: بين مجتمع الأحياء ومجتمع الأموات!

1475 2021-06-11

 

سعود الساعدي ||

 

عندما تتكرر المآسي والاحزان، وتتجدد المجازر والمقابر، لتتوالى الكوارث السياسية والزلازل الاجتماعية، ويواصل منبع الدم سيلانه دون انقطاع، وتصبح ثقافة الموت بالجملة وبالتقسيط أمرا عاديا! ليس موت الحياة، وهي الشهادة التي تخلد المُضحي وتحيي أموات الحياة، الذين عاشوا باجسادهم دون ارواحهم ونفوسهم ووجودهم. وإنما ثقافة حياة الموت واموات الحياة، التي تستهدف قيم الكرامة والحرية والشعور بقيمة الوجود والعيش الكريم، لتصيبها بمقتل بطيء متدرج عظيم، ثقافة تستهدف الذاكرة وتنخرها والاذهان وتسطحها والنفوس وتخدرها، لتقدمها الى المسالخ جاهزة!.

عندما تتكرر أعاصير المجازر وكوارث المقابر الجماعية، ويتم إعادة تدوير وإنتاج القتلة والمجرمين في مجتمع من المجتمعات، فهذا يعني أنه مجتمع مكشوف وبلا مظلة أخلاقية واقية، مجتمع مسلوب الإرادة مشلول الذاكرة ومنعدم الهوية، بلا مصدات ثقافية عميقة ولا موانع وقائية متينة، ولا نخب مؤهلة متصدية تمارس دور جرس الإنذار قبل أن تُشن غارات الاعداء، وقبل أن تُقصف البنى التحتية الاجتماعية والقيمية، لا لتنبه وتحذر وتقي فقط، وإنما لترمم الهوية وتعيد إنتاج الثقافة وتستذكر الكوارث والمجازر التاريخية، فتؤرشفها وتؤرخها لتحترم كرامة شعبها، وتطالب بحقوق ضحاياها، وتحولهم الى رموز نضال وحرية وكرامة ومصدات وقاية وحماية مستقبلية! بعد أن تقتص من الجناة، فهي هنا لا تحيي فتن الماضي، بل تحمي الحاضر وتقي المستقبل وتنميه، حتى لا تتكرر المجازر ولا يُعاد إنتاج الواقع بأدوات وأفكار الماضي، لكن الكارثة أن المجتمع الضحية لم يتعرف على القتلة وأساليبهم ليوقفها، رغم تكرارها واستنساخها، بل أن القتلة خبروا ردة فعل الضحية، وقرأوا عقله ودرسوا نفسيته، فعرفوا كيف يقتلونه مرات اخرى!

هذه الصفات الأمراض التي تصيب المجتمع المكشوف "المفضوح"، ليست وراثية وإنما مكتسبة، ونتيجة تخطيط "مؤامرات" لأجهزة مخابرات عريقة، لسنوات بل لعقود من الاستهداف المتدرج والبطيء، والقتل الصامت والنخر العميق لأسس المجتمع الأخلاقية والثقافية.   

الجرائم التي ترتكب بحق هذا المجتمع لا تقتله مرة واحدة، بل تقتل أجياله وتاريخه وقيمه وثقافته مرات ومرات، ليس لأنها جرائم غير معلنة ومن نوع آخر لا يحاسب عليها القانون، جرائم ثقافية واجتماعية وقيمية وفكرية ونفسية فقط، لا تحدث جرحا او تسفك دما بشكل مرئي، وإنما ايضا لأنها تستهدف وتقع في مجتمع "ظواهري" حسي مسطح، لا يشعر بآثار الجريمة إلا بعد أن يراها أو يتذوقها أو يسمعها أو يلمسها أو يشم رائحتها، وإلا بعد عقود من ارتكابها، فهو ليس مجتمعا تحليليا واعيا مبصرا، يتلمس ويستشعر ويتحسس، ليفكر ويدقق ويحلل ويركب، ثم ليستشرف ويستقرئ ويستنتج!. لا يستنتج "النتائج المحجوبة" فقط، وإنما ينتج أيضا ثقافة أصيلة، تولد من رحمها إرادة سياسية وطنية صلبة.

  ولأنه مجتمع أيضا لا يؤمن بنظرية المؤامرة، وتستنكر وتستسخف نخبه الثقافية المصنوعة المستأجرة والمتسكعة الحديث بها، فصناعة التفاهة هي أولويتها ووظيفتها، ليست التفاهة في الثقافة أو الوعي أو التفكير أو المواقف السياسية، وإنما حتى في الذوق والأكل واللبس والشرب والمشي واللعب! فمن الطبيعي أن يكون النتاج مجتمعا متهالكا ومخدرا، يحمل فكرا تبريريا وروحا إنهزامية، مجتمعا عاجزا وانفعاليا يساوم على قضاياه الوجودية والوطنية، ويردد افكار اعدائه ويتقبلها، بعد أن فقد ثقته بنفسه واستغرق بمشاعره ومصالحه الذاتية والفئوية ليتحول الى مجتمع عميان! بل باتت فيه الخيانة وجهة نظر معلنة بكل وقاحة في المحافل الاعلامية والسياسية! ودون اكتراث لتجارب الخونة الذين انكشفوا بعد أن تركهم اسيادهم عبر التاريخ بعد ان رحلوا.

مجتمع يساوي بين الضحية والجلاد، بين القاتل والمقتول، هو ليس مجتمعا بل مقبرة كبيرة، بلا مستقبل محمي ولا أسوار وقاية، مجتمع منخور بانتظار العاصفة لينهار!.

قراءة المستقبل بناء على تجارب الماضي الدموية، ليست كقراءة الكف والطالع، وليست تشأوما وسلبية وجلدا للذات، بل هي صناعة أمل وحياة، وصرخة تفاؤل ودعوة للحفاظ على ما تبقى من الحرية والكرامة، ومحاولة لإيقاف الخداع والتزوير والكذب المركب والمتراكم.

الثقة الزائفة بمستقبل آمن، دون صناعة لأسس الأمن هي حماقة. والوقوع في نفس الفخ، واللدغ من ذات الافعى هو عمى. وتقديم قوافل الموت الرخيص بلا هدف الحياة، هو غباء ومن يهن يسهل الهوان عليه.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
فيسبوك